فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{والبلد الطيب} أي الأرض الكريمة التربة التي لا سبخة ولا حرة، واستعمال البلد بمعنى القرية عرف طار، ومن قبيل ذلك إطلاقه على مكة المكرمة {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ} بمشيئته وتيسيره، وهو في موضع الحال، والمراد بذلك أن يكون حسنًا وافيًا غزير النفع لكونه واقعًا في مقابلة قوله: {والذى خَبُثَ} من البلاد كالسبخة والحرة {لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} أي قليلًا لا خير فيه، ومن ذلك قوله:
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ** أعطيت أعطيت تافهًا نكدًا

ونصبه على الحال أو على أنه صفة مصدر محذوف، وأصل الكلام لا يخرج نباته فحذف المضاف إليه وأقيم المضاف مقامه فصار مرفوعًا مستترًا، وجوز أن يكون الأصل ونبات الذي خبث، والتعبير أولًا بالطيب وثانيًا بالذي خبث دون الخبيث للإيذان بأن أصل الأرض أن تكون طيبة منبتة وخلافه طار عارض.
وقرئ {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} ببناء {يَخْرُجُ} لما لم يسم فاعله ورفع {نَبَاتُ} على النيابة عن الفاعل، و{يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} ببناء {يَخْرُجُ} للفاعل من باب الإخراج، ونصب {نَبَاتُهُ} على المفعولية، والفاعل ضمير البلد، وقيل ضمير الله تعالى أو الماء، وكذا قرئ في {يَخْرُجُ} المنفي، ونصب {نَكِدًا} حينئذٍ على المفعولية.
وقرأ أبو جعفر {نَكِدًا} بفتحتين على زنة المصدر، وهو نصب على الحال أو على المصدرية أي ذا نكد أو خروجًا نكدا.
وقرأ {نَكِدًا} بالإسكان للتخفيف كنزه في قوله:
فقال لي قول ذي رأي ومقدرة ** مجرب عاقل نزه عن الريب

{كذلك} مثل ذلك التصريف البديع {نُصَرّفُ الآيات} أي نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها.
وأصل التصريف تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح.
{لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} نعم الله تعالى ومنها تصريف الآيات وشكر ذلك بالتفكر فيها والاعتبار بها، وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك.
وقال الطيبي: ذكر {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} بعد {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57] من باب الترقي لأن من تذكر آلاء الله تعالى عرف حق النعمة فشكر، وهذا كما قال غير واحد مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك.
أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن قوله سبحانه وتعالى: {والبلد الطيب} إلخ مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين يقول: هو طيب وعمله طيب والذي خبث إلخ مثل للكافر يقول: هو خبيث وعمله خبيث.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم عليه السلام وذريته كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة فمنهم من آمن بالله تعالى وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله تعالى وكتابه فخبث.
أخرج أحمد والشيخان والنسائي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به» وإيثار خصوص التمثيل بالأرض الطيبة والخبيثة استطراد عقيب ذكر المطر وإنزاله بالبلد وموازنة بين الرحمتين كما في الكشف، ولقربه من الاعتراض جيء بالواو في قوله سبحانه وتعالى: {والبلد الطيب} وفيه إشارة إلى معنى ما ورد في صحيح مسلم عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته عن الله عز وجل: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه» ووجه الإشارة قد مرت الإشارة إليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}
جملة معترضة بين جملة: {كذلك نخرج الموتى} [الأعراف: 57] وبين جملة: {لقد أرسلنا نوحًا} [الأعراف: 59] تتضمّن تفصيلًا لمضمون جملة: {فأخرجنا به من كل الثمرات} [الأعراف: 57] إذ قد بيّن فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السّحاب، دعا إلى هذا التّفصيل أنّه لما مُثِّل إخراج ثمرات الأرض بإخراج المَوتى منها يوم البعث تذكيرًا بذلك للمؤمنين، وإبطالًا لإحالة البعث عند المشركين، مُثل هنا باختلاف حال إخراج النّبات من الأرض اختلافُ حال النّاس الأحياءِ في الانتفاع برحمة هُدى الله، فموقع قوله: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} كموقع قوله: {كذلك نخرج الموتى} [الأعراف: 57] ولذلك ذُيل هذا بقوله: {كذلك نصرف الأيات لقوم يشكرون} كما ذيل ما قبله بقوله: {كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} [الأعراف: 57].
والمعنى: كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهَدْي من خُلقت فطرته طيّبة قابلة للهُدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتًا نافعًا، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين: العبرةَ بصنع الله، والموعظَة بما يماثل أحواله.
فالمعنى: كما أنّ البلد الطّيّب يَخرج نباته سريعًا بَهِجًا عند نزول المطر، والبلد الخبيثَ لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبْتًا خبيثًا لا خير فيه.
والطيب وصف على وزن فَيْعِل وهي صيغة تدلّ على قوّة الوصف في الموصوف مثل: قيّم، وهو المتّصف بالطِّيببِ، وقد تقدّم تفسير الطيب عند قوله تعالى: {قل أحلّ لكم الطّيّباتُ} في سورة المائدة (4)، وعند قوله: {يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيِّبًا} في سورة البقرة (168).
والبلد الطّيب الأرضُ الموصوفة بالطِّيببِ، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النّبات الصّالح وللزّرع والغرس النّافع وهي الأرض النّقيّه.
والذي خبث ضدّ الطَّيب.
وقوله: {بإذن ربه} في موضع الحال من {نباته} والإذن: الأمر، والمراد به أمر العناية به كقوله: {لِمَا خلقتُ بيَدَيّ} [ص: 75] ليدلّ على تشريف ذلك النّبات، فهو في معنى الوصف بالزّكاء، والمعنى: البلد الطَّيب يخرج نباته طيّبًا زكيًا مثلَه، وقد أشار إلى طيب نباته بأنّ خروجه بإذن ربّه، فأريد بهذا الإذن إذنٌ خاص هو إذن عناية وتكريم، وليس المراد إذن التّقدير والتّكوين فإنّ ذلك إذن معروف لا يتعلّق الغرض ببَيانه في مثل هذا المقام.
{والذي خبث} حملهُ جميع المفسّرين على أنّه وصف للبلد، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطّيب، وفسّروه بالأرض التي لا تنبت إلاّ نباتًا لا ينفع، ولا يسرع إنباتها، مثل السّباخ، وحملوا ضمير يَخْرج على أنّه عائد للنّبات، وجعلوا تقدير الكلام: والذي خبث لا {يخرج} نباتُه إلاّ نَكِدًا، فحُذف المضاف في التّقدير، وهو نبات، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو ضمير البلد الذي خبث، المستترُ في فعل يخرج.
والذي يظهر لي: أن يكون {الذي} صادقًا على نبات الأرض، والمعنى: والنّبت الذي خبث لا يخرج إلاّ نَكِدًا، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطّيب بعد نبات البلد الطّيب، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النّبات الخبيث، لدلالة كِلا الضدّين على الآخر.
والتّقدير: والبلد الطّيب يخرج نباته طيّبًا بإذْن ربّه، والنّبات الذي خبث يخرج نكدًا من البلد الخبيث، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ.
وقرأ الجميع {لا يَخْرُج} بفتح التّحتيّة وضمّ الراء إلاّ ابنَ وردان عن أبي جعفر قرأ بضمّ التّحتيّة وكسر الرّاء على خلاف المشهور عنه، وقيل إنّ نسبة هذا لابن وردان توهم.
والنّكد وصف من النكَد بفتح الكاف وهو مصدر نَكِدَ الشّيءُ إذا كان غير صالح يَجُرّ على مستعمله شرًا.
وقرأ أبو جعفر {إلا نكدًا}، بفتح الكاف.
وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصّحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «مثَلُ ما بَعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نَقِيَّةٌ قبِلَتْ الماءَ فأنبتت الكلأ والعُشْب الكثيرَ، وكانت منها أجَادِبُ أمسكت الماء فنفع بها الله النّاسَ فشربوا وسَقَوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنّما هي قِيعَانٌ لا تُمْسك ماء ولا تنبتُ كَلأ فذلك مثَل مَن فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني اللَّهُ به فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، ومَثَل من لم يَرْفَعْ لِذلك رأسًا ولم يَقْبَل هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ به».
والإشارة بقوله: {كذلك نصرف الأيات} إلى تفنّن الاستدلال بالدّلائل الدّالة على عظيم القدرة المقتضية الوحدانيّة، والدّالة أيضًا على وقوع البعث بعد الموت، والدّالة على اختلاف قابليّة النّاس للهدى والانتفاع به بالاستدلال الواضححِ البيّن المقِرّب في جميع ذلك، فذلك تصريف أي تنويع وتفنين للآيات أي الدّلائل.
والمراد بالقوم الذين يشكرون: المؤمنون: تنبيهًا على أنّهم مورد التّمثيل بالبلد الطّيب، وأنّ غيرهم مورد التّمثيل بالبلد الخبيث، وهذا كقوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلاّ العالِمُون} [العنكبوت: 43]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}.
إذن الآية السابقة عالجت قضية البعث بضرب المثل بالآية الكونية الموجودة؛ فالرياح التي تحمل السحاب، والسحاب يساق إلى بلد ميت وينزل منه الماء فيخرج به الزرع. والأرض كانت ميتة ويحييها الله بالمطر وهكذا الإِخراج بالبعث وهذه قضية دينية، ويأتي في هذه الآية بقضية دينية أيضا: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا}.
والبلد الطيب هو البلد الخصب الذي لا يحتاج إلا لى المياه فيخرج منه الزرع، أما الذي خبث، فمهما نزل عليه الماء فلن يخرج نباته إلاّ بعد عناء ومشقة وهو مع ذلك قليل وعديم النفع. وهنا يخدم الحق قضية دينية مثلما خدم القضية الدينية في البعث أولًا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة؛ قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به».
إذن فالمنهج ينزل إلى الناس وهم ثلاثة أقسام؛ قسم يسمع فينفع نفسه وينقل ما عنده إلى الغير فينفع غيره مثل الأرض الخصبة شربت الماء وقبلته، وأنبتت الزرع، وقسم يحملون المنهج ويبلغونه للناس ولا يعملون به وينطبق عليهم قوله الحق: {... لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].
صحيح سينتفع الناس من المنهج، ولذلك قال الشاعر:
خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ** واجن الثمار وخل العود للنار

ويقول صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة».
فستر المؤمن على المؤمن مطلوب وستر المؤمن على العالم آكد وأشدّ طلبا؛ لأن العالم غير معصوم وله فلتات، وساعة ترى زلته وسقطته لا تُذِعْها لأن الناس سينتفعون بعلمه. فلا تشككهم فيه، والقسم الثالث هو من لا يشرب الماء ولا يسقيه لغيره أي الذي لا ينتفع هو، ولا ينفع غيره. {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58].
إذن منهج الله مثله مثل المطر تمامًا؛ فالمطر ينزل على الأرض ليرويها وتخرج النبات وهناك أرض أخرى لا تنتفع منه ولكنها تمسكه فينتفع غيره، وهناك من لا ينتفع ولا ينفع، فكذلك العلم الذي ينزله الله على لسان رسوله. {والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كذلك نُصَرِّفُ الآيات}.
قلنا من قبل: إن الآيات تطلق على معانٍ ثلاثة: الآيات الكونية التي نراها واقعة في الكون مثل قوله الحق: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر...} [فصلت: 37].
وآيات هي آيات القرآن، والآيات التي تكون هي المعجزات للأنبياء. {كذلك نُصَرِّفُ الآيات} [الأعراف: 58].
الآيات هنا في الكونية كالماء الذي ينزل، إنه مثل المنهج، من أخذ به فاز ونجا، ومن تركه وغوى وكل آيات الله تقتضي أن نشكر الله عليها. اهـ.